لطيفة حسين الكندري: لطائف فنلندية

من أعظم فوائد السفر الاعتبار والتفكر في الأحوال المعيشية للناس وآثارهم وثقافاتهم. في فنلندا، وتحديداً في هلسنكي العاصمة، قضيت شطراً ممتعاً من إجازة الصيف الماضي. ولأن ليس الخبر والقراءة والسماع مثل المعاينة والاطلاع والخبرة، فإنني حرصت منذ أول لحظاتي هناك على تدوين معظم انطباعاتي، وتسجيل مجمل مشاهداتي، كما حرصت على توثيق ذكرياتي بالصور والفيديوهات التي كانت تأخذ طريقها يومياً إلى حسابي في الانستغرام.
هناك شغف شديد عربياً وعالمياً بمعرفة أسرار إبداع نظام التعليم في فنلندا، وراحت المنظمات تبحث عن إجابة لهذا السؤال الذي يتضمن من الأسرار والأفكار المهمة للمعنيين بالتنمية المستدامة. لقد تجولت في جامعة هلسنكي ومرافقها ومتاحفها، وزرت بضع مكتبات خاصة وعامة، كما تحاورت مع عدد من الفنلنديين في مناسبات متفرقة، وقرأت كثيراً عن هذه الدولة التي استقلت قبل مئة سنة من الاحتلال الروسي لأراضيها.
تمتاز هذه الديار بتنوع المؤسسات الثقافية لدرجة يعجز الزائر ويحتار عند تنظيم جدوله اليومي لمشاهدة المعالم السياحية، وذلك لكثرة وتعدد المتاحف المعنية بالعلوم الطبيعية والتاريخ والفنون والعمارة والزراعة.
مهما عزونا نجاح فنلندا إلى الدور الحيوي للمدارس والجامعات، فإن النظرة التحليلية العميقة تقودنا في الحقيقة إلى سبب آخر لا يقل أهمية عن فلسفة النظام التعليمي. هذا السبب هو الدعم المجتمعي الذي بدافع التطور قام بتحويل المدارس من مؤسسات لتكديس الطاقات وتزويدها بالشهادات إلى مؤسسات لتحقيق الذات، وبناء الفرد، وصناعة المستقبل.
المجتمع الفنلندي مجتمع عاشق للقراءة لدرجة أن المكتبات العامة وغيرها عامرة بالكبار والصغار على مدار أيام السنة.
والمعلم في فنلندا يتم اختياره بعناية من بين أعداد كبيرة، وفي ذلك دلالة على الصرامة في انتقاء الطلبة وفق معايير موضوعية وسياسات لا تخضع للمجاملات والضغوطات مما يدل على استقلالية اتخاذ القرارات.
إن المجتمع الفنلندي بكل مؤسساته وتفريعاته؛ الأسرة والمدرسة والمتاحف والمكتبات والمسارح والباصات الثقافية المتنقلة، شريك في النجاح الباهر للتجربة الفنلندية. لن تستطيع المدرسة تحقيق ما تصبو إليه من غايات نبيلة إلا بتضافر الجهود المجتمعية.
فالمجتمعات المتعثرة ثقافياً هي التي تهجر المكتبات والمتاحف طوال السنة ويسوء حال الشأن الثقافي فيها، لا سيما في فترة العطل والاجازات. ومن أتعس صور التعثر الثقافي والتبعثر الفكري اتخاذ المدرسة وسيلة لاكتساب وظيفة فحسب، ومن هنا لن تفلح المدارس بمفردها في تغيير الواقع بل يستحيل تحسين الحال في ظل هذا العجز المعرفي.
والملاحظة التي أثارت انتباهي أيضا قلة عدد الموظفين في المحال التجارية، حيث يقوم الزبون بوزن ما يريد من الفواكه والخضار والتوجه إلى المحاسب لتسديد ثمن حاجياته. ومن هنا فإن توظيف العمالة بذكاء سلوك حضاري.
من وظائف وسائل الإعلام اليوم توجيه الأنظار نحو التجارب الناجحة حيثما وجدت، وحث المجتمع على بذل كل المساعي الكفيلة بتحسين أنماط المعيشة، فالنجاح نتاج مرئيات وجهود جماعية ناضجة لتنمية رأس المال البشري.

أ.د. لطيفة حسين الكندري
dr.latefah@yahoo.com
dralkandery@

نقلا عن صحيفة القبس الكويتية

اترك تعليقاً