معصومة أحمد ابراهيم: فنلندا.. التعليم من أجل الديموقراطية! (2 – 2)

نكمل في هذه المقالة ما بدأناه في المقالة السابقة عن التعليم في فنلندا، وكيف حققت نهضتها التعليمية، التي تنافس بها على الصدارة العالمية، في مواجهة أكبر الدول المرموقة في مجال التعليم.
هناك مقولة مشهورة في مجال التعليم، مُفادها أنه «في الوقت الذي تَفتح فيه مدرسة تُغلِق سجناً»، وذلك أن المدرسة هي في الأساس مصدر تنوير ومؤسسة لمواجهة الجهل والخرافة، ومن ثم تسافر بالإنسان بعيداً عن الجريمة والآفات الاجتماعية الكثيرة التي تفضي بالإنسان والجماعة ــ في نهاية المطاف ــ إلى مزيد من التأخر والتخلف.. لكن يبدو أن فنلندا تتجاوز في نظامها التعليمي هذه المقولة، لتجعل من نظامها التعليمي قاعدة أساس لبناء الديموقراطية بمفهومها الشامل، وبوصفها نظامًا للحياة، ومنظومة تستوعب حركة الفرد وتفاعل المجتمع على السواء، ومن ثم فإن المجتمع الفنلندي، حكومة وشعباً، يدفع بكل الدعم الممكن لتعزيز واستمرار المستوى الرفيع الذي يتميز به نظام المدارس الفنلندية، وذلك انطلاقاً من إيمان راسخ على المستوى القومي بأن الشعب هو المورد الأهم بين موارد الأمة، ومن ثم فإن له الحق الكامل في الحصول على تعليم رفيع المستوى، يراعي العصر ويرنو إلى المستقبل، لا أن تكون الخدمة التعليمية ــ كما هي الحال عندنا ــ تحصيل حاصل، وتكراراً لما هو مكرر أصلاً، من دون مراعاة لعصر، ولا تطلع إلى مستقبل!
وقد قامت المنظومة التعليمية في فنلندا على قواعد عدة، من بينها أن «تفاقم المشكلات العالمية تتطلب حلولاً غير تقليدية بواسطة التعليم»، فقد صار العالم كله يواجه تحديات كبرى، بينها المشكلات البيئية والمناخية، وتأرجح الاقتصاد العالميّ بين التقدم والتراجع، ومشاكل الهجرة الجماعية، وأخطار الأوبئة والآثار الجانبية للتكنولوجيا الحديثة، كل هذه المشاكل تسعى فنلندا إلى إيجاد حلول مبتكرة وغير تقليدية لها، ولذلك هي تؤمن بأنه مهما كان نظام التعليم قويّاً، فإنه يظل يحتاج ـ بالضرورة ـ إلى تطوير مستمر حتى يحتفظ بزمام المبادرة والنجاح في مواجهة التحديات.
ومن دعامات النهضة التعليمية في فنلندا أيضاً العمل على ارتفاع عدد الملتحقين بالجامعات، حيث تتجاوز نسبتهم الـ90 في المئة، إلى جانب ذلك تحرص فنلندا على جعل نظامها التعليمي جزءاً مهماً من هويتها القومية، والقاطرة الوحيدة الكافلة لمضي البلاد إلى المستقبل.. وفي هذا المضمار جعلت البلاد مهنة المعلم من أهم المهن وأكثرها مردوداً واحتراماً على السواء، كما يحرصون على اختيار المعلمين بأقصى العناية من حملة الماجستير، مع تحليهم بكفاءات علمية ونفسية عالية.. إلى جانب تخفيض ساعات الدراسة مع التركيز على عمق المضمون، وتوسيع فترات الراحة حتى لا يتعارض التعليم مع تمتع المتعلمين بحياتهم.. إضافة إلى قوة العلاقة الإنسانية بين الطلاب والمعلمين، وكذلك الدمج بين جميع التلاميذ، بدلاً من الفصل بينهم وفقاً لقوة وضعف مستواهم الدراسي، وهو ما يقلل الفجوة التحصيلية بين الطلبة الأقوياء والضعفاء، وهو أحد مقاييس نجاح التعليم.. كما أن إحدى أهم القواعد التعليمية في فنلندا هي تكافؤ الفرص والمساواة بين جميع الطلاب، بحيث يتساوى نصيب كل طالب مع غيره في الخدمة التعليمية، بقطع النظر عن شريحته الاجتماعية أو مكان سكنه في المدينة أو الريف، والتمويل يوزَّع بالتساوي بين المدارس التي تعمل كلها وفقاً لأهداف قومية واحدة ومنظومة تعليمية جادة وصارمة ومنضبطة، وديموقراطية أيضاً.. فأين نحن وأين تعليمنا من هذا كله؟!

نقلا عن صحيفة القبس الكويتية

اترك تعليقاً